الثقافة العربية ظهرت كاملة وتجلت شاملة وافية، ولا ريبة في أن صفة «العالمية» التي عرفت في الثقافة العربية ترجع إلى أصلين جامعين؛ الأول: أنها ثقافة إسلامية استمدت من روح الدين الإسلامي ما فيه من صفات أنه دين «عالمي»، والثاني: أنها ثقافة استمدت عناصرها الأجنبية من الثقافة اليونانية وهي ثقافة عالمية أيضًا، «فالعالمية» في الثقافة العربية تستمد أصالتها من الإسلام، وتستمد فروعها من أعظم حضارة ظهرت في العالم القديم، ومن هذا المزيج الفذ تكونت ثاني الحضارات العالمية في تاريخ البشرية، وعندي أن أعظم ميراث انحدر إلى الثقافة العربية من الثقافة اليونانية هو هذا التراث العظيم، الذي جعل مما خلف العرب لأعقابهم صفات القوة والخلود، يزداد بها ما في ثقافتهم الخاصة من قدرة على البقاء والاستمرار.
إن النزعة «العالمية» التي أسلمها العرب إلى أوروبا في القرون الوسطى، كانت بدورها أعظم تراث حمله العرب على أعناقهم ليؤدوه إلى أهل الحضارة الحديثة، ولو لم يكن للعرب من فضل غير هذا الفضل لكفى به دليلًا على ضخامة الأساس الذي وضعوا قواعده للحضارة وللمدنية.