كان الشرق مهد الإنسان، فيه ظهرت جماعاته الأولى، وفي وديانه الخصيبة نشأت الحضارات البدائية التي جاهد الإنسان في سبيل الفوز بها، وتناحر من أجلها مع وحوش الغابات وميكروبات الماء والهواء والطفيليات، وجالد العناصر الطبيعية وقواسر المناخات المختلفة، حتى استطاع في النهاية أن يستقوي عليها جميعًا، فيرث الأرض ومن عليها، ويشيد تلك الحضارات العجيبة تتلو إحداها الأخرى كأنها في ظلال التاريخ أشباح مردة من الجن أو جبابرة من الخيال تتصارع في أفق الروايات الإنسانية صراع الكواسر عضها الجوع، أو أخذتها غضبة الأنانية؛ فتلوح كأنها في ميدان حرب تتناوب فيه الغلبة حينًا والانكسار حينًا آخر. وأنت بين هذا وذاك ترى المدنيات تنشأ تدرجًا وتقوم لمامًا على المسرح الإنساني، ثم لا تلبث أن تراها تنهار وتتقوض دعائمها، كما لو كانت جدرانًا متداعية، وضع الفأسَ في أصولها جبارٌ قوي الأصلاب.
ترى هل كان غير الشرق من بقاع الكرة الأرضية ميدانًا لمثل هذا الصراع؟ وهل كان غير الشرق مسرحًا لتغالب هذه القوى وتفانيها؟ هل كان غير الشرق مهدًا للجماعات الإنسانية الأولى؟