قد يقول قائل أنه لولا اليهود لما انتشرت فلسفة ابن رشد في أوروبا.والحقيقة أن هذا الانقطاع والاختصاص لا وجود لهما في الطبيعة. فإن فكر البشر بمثابة فضاء لا نهاية له، تتراوح فيه كل النسمات التي تحرك أمواجَ هوائه. فإذا لم تصل هذه الأمواج بهذه الواسطة وصلت بتلك، إذ ليس في استطاعةِ أحد أن يوقف وصولها إلى الحد الذي رسمته لها اليد الأزلية بالأسباب الأزلية التي تدير النظام الأزلي. فلو لم يقم اليهود بنقل فلسفة ابن رشد إلى أوروبا لقام غيرهم، أي الذين يكونون في مكانهم؛ لأن الفراغ مستحيل في النواميس الطبيعية.
لقد كان في العصور الوسطى دليلٌ على النظام الذي يحكم العالم الأدبي كما يحكم العالم المادي، أي نظام تبادل الأفكار في العالم وامتزاج الأشياء بعضها ببعض. ذلك أن الغرب كان يومئذ مغرمًا بمعارف الشرق. ولم يكن مغرمًا بها لذاتها فقط، بل لأنه رأى أن ذلك التمدن الإسلامي العظيم الذي قام بجانبه وفي بلاده، لم يقم إلا بها ولم يبن إلا عليها. ولذلك لم ينكر أخذ العلم عن الأجانب عنه ولم يكره التشبه بهم في فضائلهم وحسناتهم؛ لأنه كان يعلم أن التشبه بالكرام فَلاحٌ، وأنه لم يكن يحذو حذوهم ويتلو تلوهم إلا لمحاربتهم بعد ذلك بنفس سلاحهم. وهذا مطابق لما جاء في القول الجليل: «اطلبوا العلم ولو في الصين».