في هذا الجزء من "أخبار القضاة"، يأخذنا المؤلف في جولة تأملية ماتعة بين صفحاتٍ حافلة بالمواقف القضائية النادرة، والقصص التي تنبض بالحكمة والعدل. بعض هذه الوقائع يلفت النظر لغرابة تفاصيله، وبعضها يثير الإعجاب لفرط الإنصاف ودقة الحكم، لكنها جميعًا تتحد في رسم صورة مشرقة للقضاء الإسلامي، ذلك القضاء الذي تأسس على تقوى، وتَربّى على قواعد الشريعة، وسعى إلى إقامة العدل لا كغاية قانونية فحسب، بل كقيمةٍ أخلاقية سامية.
ويتّسم هذا المجلد بغنى مادته وتنوّعها، حيث يسرد تجارب قضائية من مختلف الأمصار، من الحجاز إلى الأندلس، ومن بغداد إلى مصر، كاشفًا عن تنوّع الشخصيات وتعدّد السياقات، دون أن يغيب عن القارئ المحور الجامع: روح العدالة التي ظلت حاضرة رغم تفاوت البيئات والأزمنة. ففي كل واقعة، نجد أثرًا لقاضٍ أقام الحق ورفع المظلمة، بكل تجرد وورع، وكأن ميزان الشريعة بين يديه لا يميل.
وهنا، لا يكتفي الكتاب بأن يكون سجلًا للتاريخ، بل يرتقي ليغدو خطابًا تربويًا يخاطب الضمير، ويوقظ الفكر، ويذكّر كل مسؤول بقدسية موقعه. فمن خلال هذه النصوص، نلمس عظمة القضاء حين يكون مسؤولية تُؤدّى بإخلاص، لا منصبًا يُستغل، ونرى كيف أن أحكامًا نُطِقت منذ قرون لا تزال تنبض بالحكمة والإنصاف.