على امتداد العصور وتعاقب الأزمان، شكّلت سِيَر القضاة وأخبارهم مرآةً صافيةً تعكس روح العدالة، وتُجسِّد المبادئ السامية التي نهضت بها الحضارة الإسلامية في أبهى صورها. لقد كانت حياة القاضي، في كل مرحلةٍ من مراحل التاريخ الإسلامي، صورةً ناطقةً بالتقوى، والورع، والحرص على إحقاق الحق، وردّ المظالم، حتى غدت هذه السير معينًا لا ينضب للدارسين والباحثين، ومرآةً للمنهج الأخلاقي والفقهي الذي ارتكز عليه القضاء الإسلامي.
ويأتي كتاب "أخبار القضاة" للإمام العالم محمد بن خلف بن حيان، كأحد أعمدة هذا الإرث التوثيقي الخالد، إذ يُعَدُّ من أبرز المؤلفات التي خلدت أخبار هذه الفئة العظيمة من رجالات الأمة. ففي هذا العمل الجليل، جمع المؤلف بين الرواية الدقيقة للأحداث، والتحليل العميق للمواقف، مستخدمًا أسلوبًا أدبيًا يجمع بين سلاسة السرد وعمق الطرح، ليقدّم للقراء لوحةً متكاملةً عن واقع القضاء في العصر الإسلامي.
ولا يقتصر الكتاب على نقل الأخبار أو تسطير الوقائع، بل يتجاوز ذلك إلى كشف ملامح المنظومة القضائية الإسلامية، وتجلية بعدها الإنساني والعلمي، حيث يظهر القاضي المسلم لا كمنفذٍ للأحكام فحسب، بل كمربٍّ وناصحٍ وفقيهٍ، يتعامل مع النفوس قبل النصوص، ويسعى إلى الإصلاح بقدر ما يسعى إلى الحكم.